الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب (نسخة منقحة)
.الخبر عن الجوهري وأوليته ومال أمره. اسم هذا الرجل: محمد بن محمد الجوهري وكان مشتهرا بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب وكان حسن الضبط متراميا إلى الرياسة ولما ورد على تونس وتعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموطنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة في ديوان فنبه على أنها مأكلة للعمال ونهبة للولاة فدفع إليها فأنمى جبايتها وقرر ديوانها وصارت عملا منفردا يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر جذب له السلطان أبو زكرياء بضبعه وعول على نصيحته وآثره باختصاصه ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة فاستعمل مكانه وكان لا يلي تلك الخطة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته وغنائه فظفر منها بحاجة نفسه واعتدها ذريعة إلى أمنيته فاتخذ شارة أرباب السيوف وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها.وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما فنصبا له وأغريا به السلطان وحذراه غائلة عصيانه وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان فقال له:عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم فأعرض عنه السلطان واعتدها عليه وجعلها مصداقا لما نمي عنه ولما قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا بن السلطان أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها وقعد وأنف من استبداد الجوهري عليه ولم تزل هذه وأمثالها تعد عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا وتقبض عليه سنة تسع وثمانين وستمائة ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن لمان والندرومي فتجلد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتا بمحبسه ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العبث به وإلى الله المصير..الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية. كان الأمير أبو زكريا منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولا إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة.وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الاتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تيمما لمسراته وميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجبلين على المغرب والدولة فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا بيغمراسن وألزمهم من جواره بالمحل القريب.وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخا على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستبداد على تلمسان وجمع كلمة زناتة واغداد ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين بمراكش وانتظامه في أمره وسلما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وبابا لولوج المغرب على أهله فحركه إملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم فاهطعوا لداعيه.ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من وافى بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب وضرب معهم موعدا لموافاتهم في في تخوم بلادهم ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان وتولوا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة وزعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا في زويه وخاصته واعتراضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحقوا بالصحراء وتسللت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال.ولما تجلى غشي تلك الهيعة وخسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة ضعفا عن مقاومة يغمراسن علما بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته.وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله واطلعوا من المراقب عليه ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وأفريقية وأن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك ووفدت أمه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وسوغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية وأطلق أيدي عماله على جبايته وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله.وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن وأشاروا بإقامة منافسية من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره ومعترضا عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم وقلد كلا من عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين وأقاموا مراسمها ببابه وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على أذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح وأسنى جوائزهم وتطاولت أعناق الآفاق تذكره الله أعلم.
|